mytunisie2004.jpg


Ctoyenneté 2

Enter subhead content here

 

الجزء الثاني

 

جاء الاستقلال على حساب المجموعة الاستعمارية التي كانت تمسك بكل السلط وتتمتع بكل الامتيازات وكان إعلان الاستقلال دقا لساعة الرحيل بالنسبة لجزء كبير منهم وقد لحقهم في نفس السياق بقية الجاليات الغربية الأقوى وجانب هام من الأقلية اليهودية التي ربطت مصيرها بمصيره وقد زاد في نسق التصفية العرقية التي شهدتها البلاد أحداث بنزرت وتأميم الأراضي الزراعية التابعة للأوروبيين والهجرة الصهيونية إلى فلسطين خاصة على اثر نكبة سنة 1967 والأحداث التي استهدفت الأقلية اليهودية بمناسبتها ثم عودة اللاجئين الجزائريين إلى بلادهم

ويمكن القول أن المواطنة كما أبرزها الاستقلال تنحصر أساسا في السكان المسلمين المحليين وقد فقد المجتمع الذي كان قائما قبل الاستقلال جانبا كبيرا من تعدديته  لصالح الانتماء العربي الإسلامي الذي بدأ المنتصر الوحيد في الحركة الوطنية.

ولكن ارتقاء الشعب التونسي إلي درجة المواطنة الكاملة لم يكن يسيرا ولا شاملا فقد رافق مرحلة الاستقلال مرحلة مخاض صعبة انعكست أساسا على وعي قيم المواطنة وتحققها كما تضمنه الدستور ولاستجلاء هاته الفكرة يمكن حصر الاتجاهات التي تتجاذب المجتمع التونسي في ذلك الوقت إلى أربع اتجاهات رئيسية اثنان يهيمنان على الحزب الحر الدستوري ويمكن اعتبار الاتجاه الغالب في الاتجاه الذي يرى في الاستقلال مرحلة تتدرج في سياق وحدة المغرب العربي والوحدة العربية الشاملة والذي يربط بين الحركة التحريرية في تونس وفي بقية أقطار المغرب العربي والثورة الجزائرية بصفة خاصة والذي يرى تعبيرته  في الحركة القومية العربية خاصة في صيغتها الناصرية التي انبثقت عن ثورة الضباط الأحرار في مصر ويمثله أساسا المرحوم صالح بن يوسف الذي كان يمسك بالأمانة العامة للحزب الدستوري بينما يميل الاتجاه الثاني الحبيب بورقيبة رئيس الديوان السياسي للحزب والذي يمثل المدرسة الواقعة في الحركة الوطنية وهو اتجاه تغلب عليه النزعة القطرية الضيقة والبحث عن التعاون مع الغرب ويرى في الاستقلال محصلة في حد ذاته لبناء الكيان الوطني المستقل أما الاتجاه الثالث والذي ينزع إلى الإصلاح الاجتماعي على خلفية اشتراكية والذي سيكون إطار الحركة اليسارية خاصة بعد منع الحزب الشيوعي التونسي فيمثله الاتحاد العام التونسي للشغل والذي تزامن إعلان الاستقلال مع اغتيال زعيمه التاريخي فرحات حشاد بينما يمثل الاتجاه الرابع الحركة الأصلية الزيتونية ذات الصبغة الإسلامية والتي لم تكن تخلو من وزن في ذلك التاريخ وتعتبر الأكثر تواصلا والتصاقا بالفئات الشعبية والأرياف.

ولا شك أن اختيار الاستعمار لبورقيبة في مفاوضات الاستقلال لم يكن بريئا في حد ذاته لدعم الاتجاه الذي يمثله في تسلم مقاليد الحكم بعد الاستقلال

وقد جاءت حكومة الاستقلال في ضل تصفية الحركة اليوسفية داخل الحزب وداخل البلاد بمساعدة القوة الاستعمارية في مرحلة أولى ثم بناء حكومة وحدة وطنية ضمت الحزب الحر الدستوري والمنضمات القومية وخاصة منها الاتحاد العام التونسي للشغل وهو ما مثل أول خطوة في بسط وصاية وهيمنة الحزب عليها في اتجاه إقرار نظام الحزب الواحد.

كما اعتمد بورقيبة لدعم حكومته البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي أعده الاتحاد العام التونسي للشغل والذي قاد إلى الأزمة الاجتماعية التي شهدت أوجها في نهاية الستينات في ضل فشل سياسة التعاضد وخيبة الأمل الكبرى التي أحدثتها في البلاد خاصة بالنظر إلى المنحى القهري والاستبدادي الذي اعتمد في تنفيذها.

إلا أن مراجعة اختيارات الدولة في هذا المجال كان على حساب استخلاص النتائج الطبيعية لسياسة القهر والاستبداد التي تسلطت على الشعب التونسي في ضل حكم الحزب الواحد واستيلاء الأقلية المنتصرة من الفتنة بدعم من المستعمر على الدولة وانفرادها بها وقد شهدت السبعينات من القرن الماضي انفراط وتآكل قاعدة السلطة بنزوع المنضمات القومية نحو الاستقلالية سواء الاتحاد العام لطلبة تونس الذي سيطرت عليه التيارات القومية واليسارية وأعلن معارضته الصريحة لنضام الحزب الواحد ولحكم بورقيبة بداية من الانقلاب الحاصل في مؤتمر قربة سنة 1971 أو من خلال تطور الحركة الاستقلالية داخل الاتحاد العام التونسي للشغل بعد الإطاحة بأحمد التليلي والتي ستبلغ أوجهها في 26 جانفي 1978 و إعلان الإضراب العام خروجها عن سياسة الحزب وكذلك من خلال الأزمة داخل الحزب الدستوري نفسه اثر مؤتمر المنستير الأول على يد السيد أحمد المستيري والتي أدت إلى الانقلاب على الأغلبية داخل الحزب من طرف اتباع الرئيس بورقيبة وإقصاء أحمد المستيري ومجموعته من صفوفه كما جاءت الانتفاضة المسلحة والأحداث التي شهدتها البلاد بمناسبة حوادث قفصة على خلفية فشل المشاريع الوحدوية مع ليبيا والجزائر لتكرس السياسة القمعية التي انتهجها النظام ضد كل مخالفيه في الرأي في ضل تعديل الدستور ومنح رئاسة الجمهورية للحبيب بورقيبة مدى الحياة كخاتمة لتكريس الحكم المطلق واستبداد أقلية رافضة لأي حوار أو مشاركة في الحكم وتكريس سياسات الولاء والتمييز الاجتماعي لإسقاط مفهوم المواطنة كما بشر به الدستور وتمكن القوى الغالبة على أساس المناورة و القهر والتفرد بجميع مؤسسات الدولة و بجميع الامتيازات في غياب الشرعية والمساواة أمام القانون.

وقد استطاعت عن طريق إدامة حكم بورقيبة وسيطرتها بواسطة الحزب على مختلف دواليب الدولة و إحكام سياسة حصار بوليسية يكرسها قضاء منصاع رغم مرض رئيس الدولة وشيخوخته وجنونه الفاضح من نهب أغلب موارد الدولة وجهود التنمية لخدمة مصالحها وخلق طبقة رأسمالية بيروقراطية تهيمن على كل شيء في الاقتصاد والسياسة والإدارة وتحول الشعب التونسي فيما يتجاوز ثمانون في المائة من أفراده إلى طبقة وسطى - تفاخر بها بين الدول – يرزح تحت أقصى أنظمة الوصاية والقمع التي عرفتها شعوب العالم الثالث بعد استقلالها.

نحن نريد تناول هذه المرحلة من خلال تطور قيمة المواطنة وتجليها من خلال الواقع والممارسة. وقد أدى تفاقم طابع القوة والغصب الذي سيطر على مرحلة بورقيبة إلى انحسار مجال المواطنة في إطار الحزب الحاكم والذي سيطر الطابع الولائي المسير داخله على الطابع الاختياري الحر الذي انبنى عليه في بداياته حتى إنعدم تماما وتمحورت السياسة داخله على سلسلة من المناورات والمؤامرات تجند لها إعلام منحط لا يزيد عن خبثه إلا شراسته في دعم الباطل و إهدار الحقوق وهو نسق سرعان ما قاد هذا الجهاز ليتطور إلى وكر مخبرين لترصد كل نفس حرة والوشاية بكل محاولة تحرر واختلاف قبل أن يتطور إلى تنظيم ميليشيات عدوانية جائرة بسطت نفوذها على جميع أنحاء البلاد في أقصى أرجائها الغائرة في الصحاري والجبال وفي مختلف المؤسسات مهما كانت أهميتها إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية حتى لم يكد يفلت من رقابتها مواطن على أرض الوطن وتحولت إلى طابور موازي يشكل السند الحقيقي لنظام الاستبداد الذي يشرع رغباته ويكرس تجاوزاته دون حسيب أو رقيب في ضل انهيار بقية مؤسسات الدولة في فلكه بعد عجزها عن الصمود أمام سطوته وانتشاره.

وهكذا وقع تكريس مواطنة قائمة على الصمت و الانقهار وأصبحت مباشرة الشؤون العامة من قبيل الجنون والانتحار وطريقا غير سالكه إلا للسجون والمحتشدات والمنافي و تكرست  وضاعة العمل السياسي في المفهوم الجمعي للشعب التونسي وغلب عليه سلوك الاستقالة المدنية الشاملة وتحولت كل مظاهرات الاحتجاج الجماعي إلى انتفاضات بائسة مدمرة لا تبقى ولا تذر مما أعطى التوجه الأمني للدولة مشروعيته فتعددت الأجهزة والمراكز والفرق الثابتة والمتنقلة العامة والخاصة و تكثفت عناصرها بما حول وزارة الداخلية إلى أقوى جهاز في الدولة بسرعة لم يبلغها حتى في عهد الاستعمار عندما كانت مقرا للإقامة العامة الفرنسية وانتهجت سياسات التمشيط الاحترازية اليومية تقريبا والتي كانت تستهدف أحياءا بأسرها كما  انتهجت سياسة ترهيب جعلت من كل مواطن مذنب حتى تثبت براءته وقد انتهجت هاته الحملات تحت ستار  تطبيق سياسته التجنيد الإجباري لتتحول إلى سياسة ثابتة للنظام تستهدف الشباب بصفة أساسية لترويعه وكسر شوكة الاستفزاز من الظلم فيه عن طريق ممارسات عنيفة ومذلة و ظروف إيقاف في مراكز تجميع قذرة ومهينة بدعوى تحقيق الهويات والحال انه لا يراد منها سوى زرع شعور المسكنة والمذلة حتى ضاقت بهم السبل ولم يبقى من مجال في وجه فئات الشباب العاطل من بديل سوى الهجرة أو الانخراط في صفوف الأمن.

ولعل أقصى انتهاك لقيم المواطنة منذ الإستقلال إلى الآن يتمثل في امتهان قيمة العمل واستشراء ظاهرة البطالة مما حكم على الفئات الشعبية بالتدني في أوضاع بخسة حقيرة بائسة لا تتيح لها الوصول إلى المقومات الدنيا للحياة الكريمة ولا يختلف في ذلك نظام التأجير في القطاع العمومي عنه في القطاع الخاص من التقتير و الشّح في تقييم الجهد والعمل بما يفضح تخلف النضرة للأجراء و التباسها بمفاهيم قروسطوية تتعارض وأدنى قيم المواطنة مما سيشكل القاعدة التي سيبنى عليها نظام الوصاية الدائمة الذي لا زالت ترزح تحته و يؤسس لسطوة الرداءة بما فيها من تبعية و ولاء و  محسوبيّة يفضحه تناقض نظامنا اليوم حتى مع أبسط المبادئ الإنسانية في انتهاكاته لأبسط القيم والحريات الخاصة و العامة و عجزه عن استيعاب المجتمع المدني واحترام المؤسسات. 

إننا بحاجة إلى سبر حقيقة واقعنا بكل ما فيه من ظلم وعنف بدون تحامل أو تضليل إذا أردنا النهوض من جراحنا واستعادة كرامة المواطنة الحقيقية التي ضحى من أجلها آبائنا وأجدادنا.

لقد كانت هذه السياسة الخرقاء دليلا واضحا على اتساع الخرق بين السلطة المتنطعة والمجتمع التابع وكان جليا أن المصلحة العامة والأمن الذين تتستر بهما لا يعنيان سوى مصالحها الخاصة وأمنها كسلطة مستبدة جائرة لإخفاء الاحتقان الداخلي الذي تحلل به قسوتها وخروجها عن الدستور وانتهاكها الحريات العامة والخاصة لتسويق نظرية الشعب المتخلف الذي تحكمه الانفعالات بما يجعل منه الخطر الحقيقي الذي يهدد كل الإنجازات لتتموقع في وضع الوصية الدائمة على شعب بحاجة إلى الحماية من نفسه وتعيدنا إلى منطق الاستعمار بكل ما فيه من استعمار.

لقد كانت مرحلة الثمانينات فترة انتظار وترقب للنهاية المحتومة لعهد بورقيبة في احتضاره البطيء وكان موعد شريط الثامنة مساءا يستقطب الجميع مع فصول الشيخوخة والعته التي يعرضها كل يوم بما يبعث على الشفقة والازدراء في نفس الوقت فقد بقي المسكين آخر من لم يفهم أن عهده انقضى وان عليه الرحيل قبل أن يلقى به في مزبلة التاريخ.

نحن لا نريد أن نتعرض لتاريخ المرحلة إلا بقدر ما يفي يفهم حقيقة المواطنة التي حرم منها بورقيبة شعبه طيلة سنوات حكمه، لذلك كان انتظار رحيله قبل كل شيء في نفس كل مواطن انعتاق من الدين الذي أعتقد إننا مدنيون به له بسبب " جهاده الأكبر " في سبيل استقلاله وبناء الدولة حتى لا نلطخ تاريخنا بعقدة نكران الجميل وكان لا بد أن نصبر حتى يذهب إلى الجحيم رغم كل الأخطار وتكالب الأطماع والفتنة أشد من القتل.

 

أزمة المواطنة في "عهد التغيير"

كان انقلاب الرئيس بن علي على بورقيبة واستيلائه على السلطة من هذا المنطلق إيجابيا و استطاع أن يختزل في البيان الموجز الذي أعلن به التغيير في 7- 11- 1987 كل ما كان يطمح إليه الشعب التونسي من تحول وتغيير وستبقى هذه العبارات كل ما تبقى لتلوكه أجهزة دعايته على مدى عهده الطويل

واعتقد كثيرون انهم وجدوا ضالتهم فيه وانه المستبد العادل الذي طالما انتظروه وان لم يخدع في استبداده الكثيرين فقد خدع بعدله الجميع وشكل عهده محنة المواطنة الحقيقية في تاريخنا المعاصر.

فقد جاء خطابه محفوفا بهالة من الإيمان والمرجعية الدينية ليحقق أكبر حملة على الإسلام والمؤمنين عرفتها البلاد منذ حملة ابن عبيد الله الفاطمي وزحف بني هلال على إفريقية.

وجاء رافعا مبشر بقيم الحرية والتعددية والديمقراطية ليكرس سلطة بطش وقهر واضطهاد لا تضاهيها أحلك فترات الظلم من عهد مراد الثالث أو أسوأ المقيمين العامين الفرنسيين

وجاء داعية لحقوق الإنسان والحريات ليكرس سياسته اعتداء وانتهاك لأبسط الحقوق والحريات وتعتدي على الأرزاق والأعراض بشكل لم تشهد له بلادنا مثيلا في تاريخها الحديث.

جاء بيان السابع من نوفمبر إعلانا لإعلاء قيم المواطنة وعودة السيادة للشعب: "إن شعبنا بلغ من الوعي والنضج ما يسمح لكل أبنائه وفئاته بالمشاركة البناءة في تصريف شؤونه في ضل نظام جمهوري يولي المؤسسات مكانتها ويوفر أسباب الديمقراطية المسؤولة وعلى أساس سيادة الشعب كما نص عليها الدستور الذي يحتاج إلى مراجعة تأكدت اليوم فلا مجال في عصرنا لرئاسة مدى الحياة ولا لخلافة آلية لا دخل الشعب فيها"

"فشعبنا جدير بحياة سياسة متطورة ومنظمة تعتمد حق تعددية الأحزاب السياسية والتنظيمات الشعبية."

كما جاء الميثاق الوطني في القسم الثاني المتعلق بالنظام السياسي منه مؤكدا لهذا الاتجاه والتزام باحترام أحكام الدستور نصا وروحا :

" إن نضال الشعب التونسي جاء من أجل هدفين متضامنين متلازمين :

تحرير الوطن من الاحتلال الأجنبي وبناء دولة عصرية ترتكز على القانون وتستمد شرعيتها من الشعب "

" إن الدستور ينص على أن السيادة للشعب يمارسها عبر الانتخاب الحر وان نظام الدولة جمهوري يعتمد التفريق بين السّلط ويضمن استقلال القضاء وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية

" إن نظام الحزب الواحد وتهميش المؤسسات وشخصنة الحكم والانفراد بالسلطة كانت كلها ممارسات مخالفة للدستور وسببا في عديد الأزمات

" إن حقوق الإنسان تقتضي صيانة أمن الفرد وضمان حريته وكرامته مما يعني تحريم التعذيب والعقوبات الجسدية ونبذ كل أنواع التعسف التي لا يجب أن تمارس من قبل الدولة...

كما تقتضي ضمان حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والنشر وحرية المعتقد...على الدولة ضمان الحريات الأساسية الأخرى كحرية الاجتماع وحرية تكوين الجمعيات والأحزاب السياسية."

" إن مبدأ المساواة لا يقل أهمية على مبدأ الحرية وهي مساواة بين المواطنين رجالا و نساءا بدون تمييز بسبب الدين واللون أو الرأي أو الانتماء السياسي"

إن الديمقراطية تقوم على التعددية في الرأي وفي التنظيم وتهيئ متطلبات التنافس على الحكم وتقتضي التنفيذ بإرادة الشعب..."

والحقيقة إننا رغم اكتفائنا بهاته النقاط لا نجد كلمة واحدة تستحق الحذف من هذا الجزء من الميثاق ولكن هذا الخطاب الواعد لم يرقى إلى الممارسة في الواقع بل إن الأوضاع زادت سوءا وتردي وسرعان ما كشر القمع عن أنيابه وفضح الطينة الحقيقية للنظام الجديد وطبيعته الرهيبة في الازدواجية وسوء النية.

لئن كانت عقدة التخلف تشكل السمة البارزة التي طبعت علاقة السلطة بالمجتمع في عهد بورقيبة وقادت إلى استبداد مستتر في بدايتها لبناء أرضية واسعة للسلطة رغم أنها لم تنضج بعد على أساس الإصلاح الاجتماعي ببناء مقومات الوحدة الوطنية لمحاربة الفقر والجهل والتشتت القبلي و الجهوي وتحسين أوضاع المرأة ونشر التعليم والتي سرعان ما تحولت إلى استبداد فج  ظالم في ضل الحزب الواحد والرأي الواحد وتشبث مرضي بالسلطة رغم تآكل مختلف عناصر شرعيتها فان هذه العقدة سرعان ما تطورت من نضرة إشفاقية خيرة إلى نضرة عدائية حاقدة واجهت بها السلطة الحاكمة المجتمع والتي اعتقدنا جميعا انطلاقا من الوثائق المؤسسة لعهد التغيير انه جاء يحمل مشروعا للتسامح والمصالحة لتصحيحها.

ولكننا سرعان ما اكتشفنا أن الشق الغالب من القائمين على " العهد الجديد" قد دوخته مظاهر المساندة الشعبية والتلقائية العارمة لمشروعه في بدايته وانه لم يتخلص من أحقاده وهواجسه وغلب عليه الحنين إلى ما تربى عليه من ممارسات شنيعة جائرة بعد أن أصابه جنون القوة وسوغ له نكث عهد التغيير كما تم نكث عهد الأمان وعاود الانقلاب على الميثاق الوطني كما انقلب على دستور 1856 و1959 وبدأ العهد الجديد مجرد مرحلة جديدة من مرض تونس المزمن ومأساة شعبنا المتكررة مع استبداد السلاطين وان حكامنا لم يستوعبوا على مدى قرن ونصف أكثر من كتاب الأمير لماكيافيل وكان عليهم أن يرجعوا لطبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي.

واتضح أن النخبة المتحكمة لم تخرج من عقدة التخلف الذي طبع نضرتها للمجتمع وأنها عاجزة على تقديم مشروع قائم على أساس احترام مقومات المواطنة كما نص عليها الدستور وأنها تحمل مشروعها الخاص والذي لن يتحقق إلا بإخضاع الشعب التونسي وفرض الذل والمسكنة عليه وقد وجدت ضالتها في شن حرب شاملة لا هوادة فيها على "التطرف و الضلامية" للقضاء نهائيا على بؤرة الاختلاف الوحيد التي بقيت صامدة في وجهها.

وقد شكل الإسلاميون في تلك الفترة النشاز الوحيد المؤثر في الإجماع الوطني حول " برنامج التغيير " كما سبق أن عرضناه ولم يثقوا به وكانوا محقين ألا يثقوا، كما كان الإسلاميين في تلك الفترة التنظيم الوحيد من حيث الهيكلة والانتشار القادر على التصدي لإطماع الحزب الحاكم في العودة للسطو على الدولة في ثوب جديد كما كانت تدل عليه كل المؤشرات وكان جليا أن المعركة بين الطرفين معركة وجود سيتوقف على نتيجتها طبيعة النظام الجديد ولم تكن بقية التنظيمات السياسية المعارضة ذات وزن يذكر للتأثير بعد أن سلبها النظام الجديد أرضيتها الشعبية ومرجعيتها الفكرية وغلبت عليها رواسب صراعها السياسي مع الاتجاه الإسلامي السابقة لتقف موقف المتفرج أو المنحاز صراحة لحزب النظام لكل ذلك ولكل المعطيات التي تميزت بها المرحلة كانت نتيجة الصراع محسومة سلفا لصالح الحزب الحاكم الذي تحول بدوره إلى حزب الحاكم.

ولكن سياسة الاستئصال والتنكيل التي اعتمدها النظام في صراعه مع الإسلاميين حسمت بدورها وبصفة نهائية نتائج التغيير المرتقب وشكلت النظام القائم على النحو الذي هو عليه الآن.

ويمكن القول أن مختلف التنظيمات المعارضة التي اعتقدت أنها وجدت ضالتها في برنامج التغيير كانت تشكو من سياسة الاحتواء والعزل والاضطهاد التي ركزت عليها منذ الثمانينات وكانت جميع الأحزاب تشكو من انقسامات داخلية وقطيعة مفروضة عليها مع قواعدها ولم تنجح منذ انتخابات 1985 وخيبة الأمل التي صاحبتها في استعادة أنفاسها كما كانت الحركة النقابية في أوج أزمتها بعد الهيمنة التي شنها الحزب على مختلف هياكلها بدعم من السلطة لتفويض استقلاليتها وتركيز قيادة وصية عميلة فاسدة عليها كما كانت الحركة الطلابية مشتتة بعد أن خسرت صراعها مع الإسلاميين وفقدت سيطرتها على الجامعة وهو نفس الحال الذي كانت عليه مختلف مكونات المجتمع المدني.

إننا نتعمد الصراحة الجارحة المؤلمة لا تشفيا أو تنصلا من واقع نحن أساسا طرفا فيه ولكن من منطلق إيماننا إن أشنع ما في واقعنا اليوم ليس ما يحدث فيه و إنما عجزنا عن استيعاب و عن قرائه ما يسكنه من جور وظلم و اعتساف.

المختار اليحياوي - تونس

 

 

Enter supporting content here