mytunisie2004.jpg


indépendance de la justice -1-

Enter subhead content here

استقلال القضاء ضرورة وطنية لبناء الديموقراطية - الجزء الأول     

المختار اليحياوي - تونس

 

من الصعب أن نجد منطلقا لبناء نظام للعدالة يؤسس لسلطة قضائية مستقلة في إطار نظام ديموقراطي قائم على مبدأ الفصل بين السلط يؤسس لدولة القانون والمؤسسات إذا كان واقعنا ذاته يشكو من غياب رهيب للعدالة ويكرس ممارسات الهيمنة والوصاية والتسلط و الاستبداد.

إننا بذلك لا نتعدى الفكر الطوباوي الفاقد لكل مرجعية عملية أو تاريخية في ميدان يتوقف الحسم فيه على مسائل أولية تتجاوز نطاقه ومضامينه ونجد أنفسنا في نفس الإشكالية التي وقع فيها علي عبد الرازق في مصر في العشرينات عندما حاول دراسة القضاء في مصر على أساس منطقي فقدم لنا بحثا يتيما في الدولة لا يزال واقعنا عاجز عن استيعابه لحد الآن " ذلك أن القضاء ليس إلا ركنا من أركانها" كما يقول.

لذلك أعتقد أنه علينا الرجوع إلى أعمال علي عبد الرازق وما تراكم عليها بخصوص الإشكالية الخاصة التي يثيرها بناء الدولة في المجتمعات الإسلامية لفهم السمة المشتركة المميزة لها في مختلف هاته المجتمعات وأسباب قصورها عن الارتقاء لمستوى الدول في المجتمعات المتقدمة لفهم أسباب عدم نضج تجاربها المختلفة في بلورة البنى الفوقية الضرورية اللازمة لتأسيس التقدم في مختلف مظاهر حياتها الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية وحتى الأخلاقية.

كذلك  فإن أي نظام متخلف إنما يتحدد أساسا في كونه كذلك من حيث توفقه في حل إشكالية نظام الحكم من عدمه و يأتي هذا الإخفاق أساسا من عجزه عن استيعاب قيم العدالة و المساواة و الحرية في منظومة إقامة السلطة العليا – الدولة – في المجتمع

ذلك أن ما يميز الأنظمة في المجتمعات المتقدمة إنما يتحدد أساسا في قيامها على مبدأي الحرية والمساواة في إطار نظام للعدالة يحقق علوية هذه المبادئ بينما تتخبط غيرها وتراوح مكانها في الحلقة المفرغة لدائرة التغلب والقهر في إطار الفوضى والفتن أو تحت وطأة الاستبداد الغاشم. وكلها أنظمة وصاية من أقليات طاغية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا على شعوب مسحوقة مهمشة ومحاصرة . وكلها أنظمة لا تدع للقضاء فيها إلا ممارسة الدور القذر لتكريس ممارسات القمع و الاستبداد وحماية مصالح الأقليات النافذة وضمان أمنها من نقمة مجتمعاتها وضيقها بها.

على أنه منذ سقوط أنظمة الرق والعبودية و التمييز العنصري لم يعد نظام القمع وحده كافيا لبناء الدول التي أصبحت تبحث عن مسوغات جديدة لبناء شرعيتها وتكريس استبدادها ووجدت في الدين أكبر سلاح لتحييد العقل بإعطاء الحكام قدسية تسموا بهم عن مستوى البشر وتسوغ خضوعهم الأعمى لهم. ورغم تآكل هاته الركيزة على مدى تجارب تاريخ البشرية الطويل فإنها لم تتوقف عن الانبعاث من رمادها في أشكال جديدة متجددة لا تختلف في ما بينها في إنكار حرية الإنسان في الإمساك بناصية مصيره والتناظر مع من عداه من البشر لتولد استبدادا جديدا بأشكال جديدة أكثر مكرا ودهاء في إخفاء طابع الوصاية والقهر المؤسس لها.

ولعل آخر أشكال التسلط و الاستبداد المستحدثة التي أفرزها النصف الأخير من القرن العشرين والتي جاءت مع موجة انتصارات حركات التحرر الوطني من الاستعمار الغربي في منطقتنا قد انبنت على الشرعية التاريخية النظالات الظافرة لتجد في مشروع دولة الاستقلال ضالتها لتكريس استبداد جديد بدعوى المسؤولية التاريخية في إقامة الدولة الحديثة.

وهي أنظمة مهما اختلفت مسمياتها ومنطلقاتها ملكية أو جمهورية قومية أو قطرية ثورية أو محافظة رأسمالية أو اشتراكية على ضوء تجاربها المختلفة خلال النصف الأخير من القرن العشرين لم تنجح في أي غرض من أغراضها سوى التباسها بالسلطة واصطباغها بالاستبداد شكلا وممارسة ونجاحها في أن تجعل من منطقتنا أكبر فضاء للتسلط والاستبداد و القمع والتخلف في العالم اليوم.

 

نحن في تونس اليوم نعيش هذا الواقع المرير في أصفى تجلياته بكل ما فيه من ظلم وقمع منضم وغياب فضيع للحرية والعدالة و المساواة. فعن أي نظام للعدالة يمكن أن نتحدث إن لم يكن قائما على أنقاض هذا النظام الجائر المتخلف المستبد؟

نحن عاجزون فعلا عن استجلاء منطق العدالة و المؤسسات والمواطنة في نظام الوصاية و الاستبداد الكاتم لأنفاسنا و الجاثم على مصيرنا ولكننا غير عاجزين عن استيعاب المنطق الذاتي لهذا النظام المتسلط.

فنحن لم نعرف قضاءا مستقل و لا عادلا كما لم نعرف "برلمان تونسي" حرا و منتخبا أو عهدا للأمان ودستورا محترما لذلك من العبث التفكير في إطار الأنظمة النمطية للدول الديموقراطية كما صاغها الفكر الإنساني ولقنت لنا في الجامعات وإنما تأسست دولتنا على مؤسسات مختلفة تماما عن البنى التقليدية : تنفيذية – تشريعية -  قضائية و إن تنكرت في صورتها .

 إن المؤسسات الحقيقية التي تحكمنا هي مؤسسة الترهيب و القمع بأجهزتها الأمنية و القضائية والجبائية ومؤسسة الولاء والتأييد للرأي الواحد بشبكاتها الحزبية و الدعائية و الجمعياتية و مؤسسة الزعيم القائد الواحد سواء كان " مجاهدا أكبر" أو "بطل التغيير" فإنه الذي لا بديل عنه ولا قانون يطوله أو يعلو عليه. وهي المؤسسات الحقيقية التي تستنزف كل موارد الدولة في تأبيد الاستبداد ومصادرة الحقوق و حجب الحريات.

إذا استوعبنا واقعنا من هذا المنطلق أدركنا جيدا لماذا استشرى هذا الجهل المريع في مجتمعنا لأبسط حقوقه العامة والخاصة. لأن مجتمعنا لا يعرف حرية التعبير بقدر ما يعرف جرائم  الثلب وترويج الأخبار الزائفة ولا يعرف ممارسة حق التنظيم بقدر ما يعرف جرائم الانتماء لجمعيات غير مرخص لها و التآمر على أمن الدولة ولا يعرف حق التجمع بقدر ما يعرف جرائم الإخلال بالأمن العام و الاعتداء على الممتلكات العامة و الخاصة ولا يعرف من البرلمان إلا صك الغفران للسلطان ولا من الصحافة إلا التلفيق والسخافة.

ولأن مجتمعنا يعرف أن الحق النقابي غير مضمون ويتآمر به "الشرفاء" والمنصبون وأنه  لا حرمة لمسكن أو أعراض أو بريد أو اتصالات ولأنه يعرف الملاحقة البوليسية والمراقبة الإدارية والحجز والإقصاء أكثر من حرية التنقل و السفر ويعرف التغريب والتشريد ويعرف أنه مدان كلما وقع في براثن القمع أكثر مما يعرف أنه بريء إلى أن تثبت إدانته كما يعرف أن لاضمان لحرمته الجسدية متى تم القبض عليه وأن كل النصوص مجرد نصوص.

ولأن مجتمعنا يعرف أنه لا مجال للمواطنة في وطنه إلا عن طريق الولاء و الانخراط في الحزب الواحد الحاكم. إننا في مجتمع تختزل فيه الحياة إلى أدنى مقوماتها – البيولوجية – حتى لا يطاله الاضطهاد مجتمع يقايض حياته بولائه لجلاد يه و مصادري أبسط حقوقه و ناهبي ثروات بلاده مجتمع يشكو غيابا صارخا للحرية ومقومات العدالة كما تتعارف عليها الإنسانية قاطبة في مستهل هذه الألفية الثالثة لذلك نفقد الأمل وتغيب فينا معاني الكرامة و تستشري فينا أخلاق النفاق والتملق والمسكنة والاستقالة والإحباط  فكيف نبني عدالة لهذا الحطام.

 

من أجل نظرية للعدالة تؤسس للحرية

أعتقد أن موضوع استقلال القضاء يشكل مسألة محورية في كل محاولة جدية لاستشراف نظام قائم على العدل و الحرية. و لا أعتقد أنه في الإمكان تأسيس نظام ديموقراطي إذا لم يستوعب نظرية للعدالة قادرة على تجسيد قيم الحرية في مختلف مجالاتها و تجلياتها.

 كما أن مجال القيم إذا أردنا له أن يتحدد على أساس إعلاء مبدأ الحرية لن يمكن له الصمود أمام تقلب الأحوال و تعاقب الأجيال إذا لم نعطي للحرية المعنى الذي يؤهلها لتبوء هذا المقام.

إننا نعرف أن الحرية ليست صنما يعبد وأن الحرية ليست قيمة في حد ذاتها وإنما هي انعكاس لنضرتنا للإنسان من منطلق العدالة و الإيمان بالتناظر بين البشر وباعتبار أنه بقدر ما يتوفر للإنسان من عوامل التحرر والإنعتاق الذاتية و الاجتماعية و الطبيعية بقدر ما ينعكس في سخاء عطائه كإنسان مهما كان المجال الذي يشغل اهتمامه من عوامل التميز والإبداع.

إن الشعور بالحرية بهذا المعنى تحميل للإنسان لمسؤولية إنسانيته كفرد وكطرف من مجتمع وهو بهذه المسؤولية يعكس في مختلف مجالات نشاطه معنى إنسانيته كذات ومعنى الإنسانية بشكل عام كما يطمح أن يراها متحققة فيه.

إن بناء الإنسان على أساس الحرية كقيمة قصوى في إطار مجتمع قائم على العدالة وحده الكفيل بإلغاء كل التناقضات العرقية والدينية و الأيديولوجية وحتى الاقتصادية و الأخلاقية لتتحول من عناصر تناحر و فرقة إلى عوامل إثراء و خصوصية لكل القيم الإنسانية و كوازع إضافي في إعلاء قيمة الحرية المتسامي.

إننا لا نتصور حرية تلغي الأخلاق وحرية تلغي المبادئ و لا حرية تلغي العقائد الراسخة و حرية لا تقوم على الصدق وحرية لا تدفع إلى العمل لأن هذه القيم هي أسس الحرية و جذورها التي تمدها بالحياة.

 

كذلك فإننا حين نتحدث عن نظرية للعدالة فإنما نعني العدالة التي تهدف إلى ضمان الحرية للجميع لا قمعها و مصادرتها تحت أي ستار.

لذلك فإنه لا يمكن لأي نظرية للعدالة من هذا المنطلق أن تعكس تصور نمطي للإنسان يحد من حريته في تحديد ذاته ولعب دوره في مجتمعه دون أن تقع تحت كابوس الدولة الوصية الطاغية.

كذلك فإن الإقرار بالحقوق الأساسية التي أفرزها نضال الإنسانية نحو انعتاقها و المتعارفة في عالم اليوم لابد أن يكون حجر الزاوية في كل تأسيس لعدالة تستحق هذا الاسم.

إلا أن الإقرار بهذه الحقوق الأساسية كقاعدة مشتركة للعدالة في مجتمع ديموقراطي لا تكفي لتحقيق المساواة  ذلك أن المساواة لا تتحقق للجميع كمعطى أولي بنفس القدر بسبب عوامل خلقية أو ظرفية أو طبيعية وهي عوائق طارئة أو دائمة تحد من حرية البعض و لابد للمجتمع من أخذها بعين الاعتبار ليتوفر لهم قدر أدنى من الشعور بالتناظر والكرامة مع بقية أفراد مجتمعهم أي بالمساواة أي بالعدالة دون منة أو مسكنة وهو عبئ يتحمله بقية أفراد المجتمع على السواء.

لذلك فإن حالات بعض الفئات الخاصة تفرض في حقهم حقوقا أساسية إضافية سواء في الرعاية أو العلاج أو غيرها تدخل في صميم نظرية العدالة لأي مجتمع مؤسس على الحرية.

كما نعتقد أنه لا يمكن أن تكتمل أي نظرية للعدالة على هذا الأساس بدون ترسيخ وحماية لقيم الاختلاف باعتباره عنصر إثراء في المجتمع يحتاج إلى مؤازرة حتى لا تضمحل عناصر التميز فيه ويكفل لها مقومات تطور ذاتي يرعى خصوصيتها مهما كانت أقليتها باعتبار أن الحرية اختلاف والاختلاف أساس الديموقراطية.

نستطيع على هذه الأسس تجميع عناصر الوفاق الوطني خارج نظرية العقد الاجتماعي بعد أن اتضح أن العقد المؤسس لدولة الاستقلال يحتوي على قدر كبير من الغبن بما يجعله أقرب إلى الإذعان منه إلى التوافق أدى إلى فترات حالكة من الاضطهاد و الاستبداد تحت شعارات الديموقراطية الزائفة.

 

لذلك فإننا بحاجة إلى تطوير نظرية العدالة لتنبع من وفاق على مبدأ الشرعية لا باعتبار الشرعية مجرد تطابق مع القانون ولكن باعتبارها مؤسسة على ضمان الحرية بما يكفل للتشريع قاعدة أخلاقية تنبع من وفاق عام على مبادئ مؤسسة تضمن استمراريته وعدم تناقضه وتذبذبه سواء من حيث دواعيه أو مراميه.

كذلك نحن بحاجة إلى ترقية نظرة مجتمعنا للقانون و تنقيته من صبغة الإلزام والغصب التي استشرت فيه و لا نقصد بذلك التخفيف من الزاميته ونفاذه بل أننا نقصد توفير الأرضية اللازمة لنشأة قناعة فطرية في مواطنينا على احترام القانون و الاستفزاز من كل من يحاول خرقه أو التحايل عليه حتى يتكرس احترام القانون في أخلاقيات المواطنة و حتى يشكل المجتمع سدا مانعا في وجه المارقين عليه باعتباره الإطار الوحيد القادر على إعطاء دولة القانون والمؤسسات كل معانيها.

ولاشك أن عوامل التحفيز الذاتي لكل فرد للذود عن الشرعية في إطار نظام ديموقراطي لا يمكن أن تتم خارج التنشئة الحقوقية في بناء مفهوم المواطنة باعتبار أن آفة الجهل القانوني التي رسخها في مجتمعنا نظام الاستبداد لا يمكن تجاوزها بسهولة ما لم نرسخ في كل مواطن صفته المرجعية في التشريع وفي كل ما يصدر من قوانين عن طريق إثراء الحوار اللازم لصياغتها واستيعابها في جميع مجالاتها بتوفير حياة برلمانية فاعلة وفضا آت إعلامية حرة عن أي توجيه قادرة على بلورة رأي عام عريض ثري و متفاعل.

إن القضاء في مجتمع ديموقراطي عصري كما نطمح إليه لا علاقة له بصورته المهينة المقرفة التي نكابدها. ولابد من ترقية نظام العدالة نحو تجاوز المعنى الزجري و العقابي المجحف للجزاء و العمل على إيجاد نضرة متعمقة وشاملة لظاهرة الانحراف برصد مختلف تجلياتها ومظاهرها و ميادينها بما يسمح بتجاوز صيغ السياسات الجزائية المتعارفة إلى ابتكار سياسة إصلاحية تهدف أساسا إلى العمل على استيعاب ظواهر الانحراف و الجنوح بتفكيك و معالجة الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية و الحضارية المسببة لها و توفير العوامل اللازمة لإدماج و رعاية كل من شملتهم ببرامج مكيفة على مختلف الفئات العمرية و الاجتماعية و الشخصية للمعنيين بها. كما يتطلب ذلك توفير الأطر و الكفاءات اللازمة لرصد مظاهر السلوك الإجرامي التي تكشف عن اختلالات خطيرة في سلوك بعض الأفراد بما يجعلهم يشكلون خطرا على ذاتهم وعلى محيطهم و على المجتمع بأسره لا بد من التنبه لها منذ بداية أعراضها عليهم لتحييد مضارها و تخفيف أضرارها على كل من قد تتهدد هم و تحديد الإختلالات النفسية والذهنية الظرفية أو الدائمة المولدة لها بالحرفية و اليقظة اللازمة لها و فرزها عن حالات الجنوح العادية حتى تلقى المعالجة اللازمة لها.

إن الدراسات العلمية المتوفرة في هذا الميدان على قدر كبير من التقنية والتخصص و لئن حددت الظواهر و المناهج العامة لرصدها و معالجتها إلا أنها تتميز بالخصوصية الموضوعية للمجتمعات و الفئات التي تناولتها و لا يمكن أن تشكل حلول جاهزة ذات فعالية عالية ما لم تكن منبثقة عن جهد ذاتي يأخذ بعين الاعتبار عناصر الخصوصية الكامنة في مجتمعنا و محصلة تجربتنا السابقة بكل ما تراكم عنها من معطيات و إحصاءات و مقاربات.

 

المختار اليحياوي - تونس ـ 2001

 

 

Lire la suite

Enter supporting content here