289944101636.gif

prisonnier

Enter subhead content here

 

مقاومة الاستبداد و القمع بمنطق الحداثة      

المختار اليحياوي - تونس

 

خلف قضبان الحديد و في ظروف تسام فيها إنسانيتنا كما يسام العبيد و تنتهك فيها مقومات الكرامة البشرية يقبع مئات من خيرة أبناء تونس اليوم و مناضليها الأحرار ممن آثروا تحدي الظلم و الطغيان و التصدي للقهر و العدوان على مهانة الصمت الذليل و المداورة و المناورة و التهرب من مواجهة المسؤولية. رموز المقاومة فينا من حزب النهضة و الحركات الإسلامية و حزب العمال الشيوعي التونسي لم ينتظروا ليدفعوا ضريبة الحرية بسخاء لا تدافعا لتوهم قرب تحققها و لا تجاسرا لتوهم ضعف أعدائها لم يبالوا بالزمن طال أو قصر و لا بموازين القوى و شدة بأس ومكر وحقد الأعداء فكانوا منبع عطاء دافق لا ينضب لتونس التي نحملها في وجداننا كما حملها آباؤنا و أجدادنا في أحلك ظروف الإستعمار و التسلط و الإنهيار.

إلى هؤلاء الأحرار الذين أنجبتهم هذه التربة الرمضاء و ضمتهم شعابها و ضللتهم أشجارها و أنشدتهم أطيارها أغنية الحياة الحرة الطليقة الزاهية نرحل بوجداننا صباحا مساءا تحملنا أطياف شهدائنا كلما اشتد بلائنا و ادلهمت آفاقنا و تبعثرت المسالك بين أقدام رفاقنا لعلنا نستمد من ظلمة أسرهم و طول حصارهم شاهدا و دليلا نسير عليه أو شعاعا نستنير به انفراج كربة النفق المظلم فلا نجد في صمتهم في صدهم و في صبرهم سوى معاني الإصرار على المقاومة. المجد و العزة و الخلود لمقاومتكم أيها الرفاق. فأنتم فخرنا و دليل نصرنا.

جئتكم اليوم لأحاضر عن السجون. نريده يوما للسجين نذكر فيه أسرانا ضحايا الغدر و القهر و سجناء الظلم و القمع و لكنني لا أحمل سوى ذاكرة طفولة بعيدة عن قبو مظلم مهين قضيت فيه دون الأسبوع لأنني حلمت بوطن لنا في فلسطين و أرى أغلبكم أمامي اليوم مدونات لشهور و سنين من الإعتقال و التنكيل فماذا عساي أفيدكم لو قلت لكم أنكم قد ظلمتم و أنه كان على سجنكم أن يكون أرحب و حجزكم أقصر. لا شيء... لا شيء لأنكم تحملون السجن في الذاكرة و تعيشونه في الواقع لأن حصاركم لم ينتهي و ظلمكم لم ينقضي. فماذا عسى أن يفيدكم لو تلطفوا في تقييدكم هل كنتم ستخرجون شاكرين ممنونين كلا يا رفاقي إن الظلم قسوة و عنجهية و دماء إن الظلم إرادة إعدام و استئصال و إقصاء. ليس لنا أن نكون بلهاء يجب أن نعي جيدا ما يضمره الشر لنا حتى لا تستبد بنا أحقادنا و نتحول على شاكلة جلادينا. نحن إرادة خير و عطاء أن نسجن أو نغتال فلن يكون رثائنا سوى شهيدا آخر أو سجينا آخر أكثر عطاءا و تفاني.

 أنا من أولئك الذين يحلمون صادقين بوطن بلا حدود بلا قيود فكيف أؤسس لكم نظاما للسجون و نحن لم نستوعب بعد معنى القانون إن مشروعنا أن ندمر كل هذه السجون و أن نجتث أسسها من عمق أعماقها أن نطمر مغاراتها و قبائها أن نذيب حديدها و أسيجتها أن نسقط أسوارها و أبوابها أن نحرر عبادها فنحن لا نرضى بمثل هذا المصير المهين حتى لأسوء المجرمين.

 يريدوننا أن نستجدي عفوا عن ذنب لم نقترفه يريدوننا أن نخضع و نرضخ أن نهان و نستكين يريدوننا مساكين نتسول الرحمة بتحوير قوانين الظالمين يريدون أن يفرضوا علينا حياة الذمة في أوطاننا إن أسرنا لا يتلخص في جدران أو حديد إن أسرنا ليس أمرا جديدا نحن أسرى و طن أسير ليس لنا فيه حق تقرير المصير. أرجو ردي إن جاوزت حدي. و لكنها الحقيقة الفظيعة المؤلمة كما هي و كما هي يجب أن تقال حتى لا يطول بنا التداول و السؤال يجب أن ندرك هل أننا أهل للحرية أم وقود لسخط الطغاة.

 عجيب أن نتسول العتق من أسيادنا مقابل ثني رقابنا و السجود لغير المعبود. عجيب أن تختلط علينا الأمور بعد كل ما نالنا من ظلم و جور. ما جدوى أن نتزايد في سرد ما حاق بنا. هل سيضيف الأمر شيئا لما نالنا. هل سرقنا ؟ هل غدرنا ؟ هل تآمرنا ؟ أنتم تعرفون من هم المارقون . و مع ذلك هذا وطننا و نحن أسراه و طالما ضللنا نفكر بعقلية الأسير لن نقوى على التغيير. إن ما نبحث عنه أن يجتث هاجس الأسر من وجداننا ووجودنا أن نتحرر من براثن القهر و عقلية الحصار و نستوعب عقلية الإنتصار لأن النصر يتحقق في ذاتنا قبل أن يتجسد في واقعنا فلنبدأ بتحرير أنفسنا حتى نخلص أسرانا.

علينا أن نبدأ بعلاج أنفسنا من سيكولوجية القهر. إن المضام المقهور لا يقوى على تدبر الأمور. لذلك نحن بحاجة إلى عيون ثاقبة و بصيرة واعية تجلي ما ران على عقولنا و تكشف سريرتنا لتستجلي فينا عظمة و عبقرية و قوة إنسانيتنا. يجب أن نولد من جديد بشر لا عبيد. إن الإنسان شيء بديع و بؤسه من عجزه عن إدراك نفسه. إن الإنسان اليوم لا يئن سوى من الوهن : تطلعوا إلى عالمنا اليوم و انظروا ما بلغته البشرية في أرقى تجليّاتها إنها حضارة مبدعة تطوع طاقة الكون لتشكل الطبيعة على نحو ما ترنو إليه إرادة البشر هذه حقيقة ماثلة أمام أعيننا كنا أول من حمل بشراها فلو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله. ولكن الإنسان ليطغى إن عبث و تولى نحن نطغى بذُلنا و جمودنا بخوفنا و قعودنا عن التجاسر في الاضطلاع بما يحملنا به وجودنا. نحن نضطهد لأننا نحمل عقلية المضطهد نلقنها لأبنائنا و نورثها و نتوارثها في حلقة مفرغة لن تزول ما لم نقف على حقيقة المسؤول.

نحن سجناء أوهام و عقائد و خرافات تكبلنا و تردنا إلى سبايا و رقيق في عصر لا يرحم من يعيش على هامشه من يتشبث بأزمنة مظلمة من يعجز عن الصراحة مع ذات نفسه عن السؤال : لماذا صرنا إلى هذا المآل؟ نتعبد الذل و المهانة مشفقين على أنفسنا نمنيها برحمة ربها و نقصيها من عالمها نستقيل من دورنا في عصرنا و عالمنا و نحكم لأنفسنا بثواب الأنبياء و الصدّيقين و ننساق طائعين للعدم في دنيانا قبل إن يحين أجلنا بدون أن نجاهد و نسأل أنفسنا هل فعلنا ما علينا حتى يتغير أمرنا؟ هل يكفي أن نكون مضطهدين حتى نكون عند الله مفلحين؟ هل أن ما يطلب منا هو نفس ما نقرأه في مسيرة أسلافنا ؟ نحن بشر آخر لعصر آخر لا بد لنا أن نتفاعل معه بما يجعلنا فاعلين فيه لا مجرد حطام مهين.

إن العالم يبنيه الإنسان و الإنسان حر أو لا يكون إن العبيد والتابعين يشيدون قصور و قبور الملوك و السلاطين و يعيشون في الحفر مقموعين مقيدين. يجب أن ننفض أيدينا من كل ما يبخس الإنسانية فينا إنما يتجلى الإيمان في الإنسان بقدر ثقته في نفسه لأن الحرية ثقة بالذات لا تهاب السلاطين و لا تتسلط عليها غواية الشياطين. يجب أن نستوعب حقيقة ما جاءنا و ما أبدعه عظماءنا بفكرهم و فنهم و حسهم و أخلاقهم و قيمهم لأننا ما لم نستوعب ذاتنا بكل ما علمته لنا تجاربنا لن نقدر على البناء على واقعنا و بمنطق عصرنا و سنضل تائهين في الزمان و لن يستوعبنا المكان و لن يتحقق فينا الإنسان لأننا نبني من تخلفنا شواهد عجزنا عن إدراك حالنا. لذلك قضيتنا اليوم أكبر بكثير من سلطان عادل و سجن مريح .

علينا أن ندرك أننا على أبواب عصر جديد نكون فيه أو لا نكون أن ما يهاجمنا لا يتلخص فقط في قمع الاستبداد و تكالب الأحقاد : تواجهنا هجمة تغريب و استلاب تريد أن تردنا إلى أرذل المنحطين " حضارة إرهابيين" فأين سنشيع قيمنا و أين سنهاجر بعقائدنا و حتى إذا فجرنا أنفسنا من غلبنا أصبحنا نوصم بالمجرمين . هل سنواجه العالم بما نحن كما هم لنا متوهمون و نقنع بهزيمتنا و نستبطن سيكولوجية المقهورين إلى أبد الآبدين ؟ أن حكامنا اليوم بذلك قانعون متعاونون. كلا لن يكون ذلك كذلك إلا إلى حين لأنه لو حصل سينقلب علينا أبنائنا و المقبلون من أجيالنا و سنمسخ شيعا و قبائل إلى أن يدبر أمرنا كما آل إليه حال غيرنا من الأقدمين الغابرين.

إننا نواجه حضارة ماردة طاغية جبارة لا ترأف بحال المساكين تحتقر المترددين و تزدري الأغبياء و الجاهلين. نحن لا نبحث على أن نؤسس من وطننا ملجأ نحتمي به حتى يدك على رؤوسنا مثل "جنين أو دير ياسين" نحن نؤسس القاعدة للحرية ننطلق منها إلى كل أرجاء العالم الرحيبة غازين لا مدحورين عبر مختلف التقنيات لنقدم إضافتنا في بناء الحضارة الكونية نصارع الأمم طبق قواعد العصر و لا نخوض حروب الأقدمين.

إن العدة في الذات في تأصلها في تجذٌر قيمها في سخائها و بذلها في ترفعها وفي قوة إرادتها ووعيها بمختلف التحديات التي تجابهها تلك محددات البقاء للقرن الواحد و العشرين. إن أسرنا في عقلنا نخاف أن نجتهد فنخطئ فيصيبنا أجر من أجران و نحن ندرك واقع مجتمعنا تغتال فيه القيم و تنتهك الأخلاق صباحا مساءا يربى على النفاق بصلف و ثبات فنوغل في الانكماش و الانطواء و نرتد على أكثر المذاهب إيغالا في التحجر و إنكارا لمنطق الحكماء فيزداد البون اتساعا و يستبد بواقعنا النفاق و يتوطد الشك في الإيمان بق در عجزنا عن الإلمام بمتطلبات الزمان. إن العقيدة رسالة و لكل عصر رسالته و قد آن الأوان أن نستوعب رسالة عصرنا و أن نحملها بلغته لأصحابه دون أن نتنكر بحجاب أو عمامة أو جلباب.

المختار اليحياوي - تونس ـ 2002

 وقع إعداد هذه المداخلة بمناسبة يوم السجين الذي نضمه فرع جندوبة للرابطة التونسية لحقوق الإنسان و الذي منعت قوات الأمن انعقاده*

 

 

Enter supporting content here